فصل: فصل: في لفظ ‏‏الصلاح‏ و الفساد‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

من هذا الباب لفظ ‏[‏الصلاح‏]‏ و ‏[‏الفساد‏]‏‏:‏ فإذا أطلق الصلاح تناول جميع الخير وكذلك الفساد يتناول جميع الشر كما تقدم في اسم الصالح وكذلك اسم المصلح والمفسد قال تعالى في قصة موسى‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 19‏]‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والضمير عائد على المنافقين في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وهذا مطلق يتناول من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيكون بعدهم، ولهذا قال سلمان الفارسي‏:‏ إنه عنى بهذه الآية قوما لم يكونوا خلقوا حين نزولها وكذا قال السدي عن أشياخه‏:‏ الفساد الكفر والمعاصي‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي ‏.‏ والقولان معناهما واحد ‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الكفر ‏.‏ وهذا معنى قول من قال‏:‏ النفاق الذي صافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ‏.‏ وعن أبي العالية ومقاتل‏:‏ العمل بالمعاصي ‏.‏

وهذا أيضًا عام كالأولين ‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏ فسر بإنكار ما أقروا به أي‏:‏ إنا إنما نفعل ما أمرنا به الرسول ‏.‏ وفسر‏:‏ بأن الذي نفعله صلاح ونقصد به الصلاح وكلا القولين يروى عن ابن عباس وكلاهما حق فإنهم يقولون هذا وهذا ‏,‏ يقولون‏:‏ الأول لمن لم يطلع على بواطنهم‏.‏ ويقولون‏:‏ الثاني لأنفسهم ولمن اطلع على بواطنهم ‏.‏ لكن الثاني يتناول الأول، فإن من جملة أفعالهم إسرار خلاف ما يظهرون وهم يرون هذا صلاحًا قال مجاهد‏:‏ أرادوا أن مصافاة الكفار صلاح لا فساد ‏.‏

وعن السدي‏:‏ إن فعلنا هذا هو الصلاح وتصديق محمد فساد ‏,‏ وقيل‏:‏ أرادوا أن هذا صلاح في الدنيا فإن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمنوا بمتابعته وإن كانت للكفار، فقد أمنوهم بمصافاتهم ‏.‏ ولأجل القولين قيل في قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏ أي لا يشعرون أن ما فعلوه فساد لا صلاح ‏.‏ وقيل‏:‏ لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم ‏.‏ والقول الأول يتناول الثاني، فهو المراد كما يدل عليه لفظ الآية ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 81‏]‏ وقول يوسف ‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وقد يقرن أحدهما بما هو أخص منه كقوله‏:‏ ‏{‏وَإذا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ قيل‏:‏ بالكفر وقيل‏:‏ بالظلم، وكلاهما صحيح وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ وقتل النفس الأول من جملة الفساد لكن الحق في القتل لولي المقتول وفي الردة والمحاربة والزنا، الحق فيها لعموم الناس، ولهذا يقال‏:‏ هو حق لله ولهذا لا يعفي عن هذا كما يعفي عن الأول لأن فساده عام قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أو يُصَلَّبُواْ أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ الآية ‏.‏ قيل‏:‏ سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال ‏.‏ وقيل‏:‏ سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا ‏.‏ وقيل‏:‏ المشركون، فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين‏.‏

وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله، ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى ‏.‏

وكذلك قرن ‏[‏الصلاح والإصلاح بالإيمان‏]‏ في مواضع كثيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 107‏]‏ ‏.‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 48‏]‏ ‏.‏

ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء في الحديث الصحيح أنه ‏(‏قيل‏:‏ يا رسول الله أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ إيمان بالله‏)‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏60‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وقال في القذف‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال في السارق‏:‏ ‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 39‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ولهذا شرط الفقهاء في أحد قوليهم في قبول شهادة القاذف أن يصلح وقدروا ذلك بسنة كما فعل عمر بصبيغ بن عسل لما أجله سنة ‏,‏ وبذلك أخذ أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغ بن عسل ‏.‏

 فصل

فإن قيل‏:‏ ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كل أحد، بين ظاهر لا يمكن دفعه، لكن نقول‏:‏ دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز، فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‏)‏ ‏[‏مجاز‏]‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏)‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلى آخره، حقيقة ‏.‏ وهذا عمدة المرجئة والجهمية والكرامية وكل من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان ‏.‏ ونحن نجيب بجوابين‏:‏ ‏[‏أحدهما‏]‏‏:‏ كلام عام في لفظ ‏[‏الحقيقة والمجاز‏]‏ ‏.‏ ‏[‏والثاني‏]‏‏:‏ ما يختص بهذا الموضع ‏.‏ فبتقدير أن يكون أحدهما مجازًا، ما هو الحقيقة من ذلك من المجاز ‏؟‏ هل الحقيقة هو المطلق أو المقيد أو كلاهما حقيقة حتى يعرف أن لفظ الإيمان إذا أطلق على مإذا يحمل ‏؟‏‏.‏ فيقال أولًا‏:‏ تقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى ‏[‏حقيقة ومجاز‏]‏ وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظ الحقيقة والمجاز في المدلول أو في الدلالة، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين ‏.‏ ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم ‏.‏ وأول من عرف أنه تكلم بلفظ ‏[‏المجاز‏]‏ أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه ‏.‏ ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة ‏.‏ وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية، ولهذا قال من قال من الأصوليين - كأبي الحسين البصري وأمثاله - إنما تعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها‏:‏ نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا‏:‏ هذا حقيقة وهذا مجاز ‏,‏ فقد تكلم بلا علم‏,‏ فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا‏:‏ هذا ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها‏.‏

وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف ‏.‏ وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في ‏[‏أصول الفقه‏]‏ لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ ‏[‏الحقيقة والمجاز‏]‏ ‏.‏

وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية على العربية كلام معروف في ‏[‏الجامع الكبير‏]‏ وغيره، ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز ‏.‏ وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلا في كلام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله‏:‏ ‏[‏إنا‏,‏ ونحن‏]‏ ونحو ذلك في القرآن‏:‏ هذا من مجاز اللغة يقول الرجل‏:‏ إنا سنعطيك ‏.‏ إنا سنفعل، فذكر أن هذا مجاز اللغة ‏.‏

وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال‏:‏ إن في ‏[‏القرآن‏]‏ مجازًا كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم ‏.‏ وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز كأبي الحسن الخرزي ‏.‏ وأبي عبد الله بن حامد ‏.‏ وأبي الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية ومنع منه داود بن علي وابنه أبو بكر ومنذر بن سعيد البلوطي وصنف فيه مصنفا ‏.‏ وحكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين ‏.‏

وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد‏:‏ إن في القرآن مجازًا لا مالك ولا الشافعي، ولا أبو حنيفة فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ‏.‏

إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة وما علمته موجودا في المائة الثانية اللهم إلا أن يكون في أواخرها والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم ‏.‏ قالوا‏:‏ إن معنى قول أحمد‏:‏ من مجاز اللغة ‏.‏ أي‏:‏ مما يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان‏:‏ نحن فعلنا كذا ونفعل كذا ونحو ذلك ‏.‏ قالوا‏:‏ ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له ‏.‏ وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز لا في القرآن ولا غيره كأبي إسحاق الإسفراييني ‏.‏ وقال المنازعون له‏:‏ النزاع معه لفظي فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظًا مستعملاً في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلا بقرينة، فهذا هو المجاز وإن لم يسمه مجازًا ‏.‏ فيقول من ينصره‏:‏ إن الذين قسموا اللفظ‏:‏ حقيقة و مجازًا قالوا‏:‏ ‏[‏الحقيقة‏]‏ هو اللفظ المستعمل فيما وضع له ‏.‏ ‏[‏والمجاز‏]‏ هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له كلفظ الأسد والحمار إذا أريد بهما البهيمة أو أريد بهما الشجاع والبليد ‏.‏

وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولًا لمعنى ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه وقد يستعمل في غير موضوعه، ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم أن كل مجاز فلا بد له من حقيقة وليس لكل حقيقة مجاز‏؟‏ فاعترض عليهم بعض متأخريهم وقال‏:‏ اللفظ الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز فإذا استعمل في غير موضوعه فهو مجاز لا حقيقة له ‏.‏

وهذا كله إنما يصح لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولًا لمعان ثم بعد ذلك استعملت فيها، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال ‏.‏ وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية فيدعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ويجعل هذا عاما في جميع اللغات ‏.‏

وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائي، فإنه وأبا الحسن الأشعري كلاهما قرأ على أبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع عن مذهب المعتزلة وخالفهم في القدر والوعيد وفي الأسماء والأحكام وفي صفات الله تعالى وبين من تناقضهم وفساد قولهم ما هو معروف عنه ‏.‏ فتنازع الأشعري وأبو هاشم في مبدأ اللغات، فقال أبو هاشم‏:‏ هي اصطلاحية وقال الأشعري‏:‏ هي توقيفية ‏.‏ ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة، فقال آخرون‏:‏ بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي وقال فريق رابع بالوقف ‏.‏ المقصود هنا أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني فإن ادعى مدع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل فإن هذا لم ينقله أحد من الناس ‏.‏

ولا يقال‏:‏ نحن نعلم ذلك بالدليل، فإنه إن لم يكن اصطلاح متقدم لم يمكن الاستعمال ‏.‏ قيل‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان‏:‏ ‏{‏عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى أي‏:‏ أراد المتكلم به ذلك المعنى ثم هذا يسمع لفظًا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم، بل ولا أوقفوه على معاني الأسماء وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها وإن باشر أهلها مدة علم ذلك بدون توقيف من أحدهم ‏.‏

نعم قد يضع الناس الاسم لما يحدث مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه كما يولد لأحدهم ولد فيسميه اسما إما منقولا وإما مرتجلا وقد يكون المسمى واحدا لم يصطلح مع غيره وقد يستوون فيما يسمونه ‏.‏

وكذلك قد يحدث للرجل آلة من صناعة أو يصنف كتابا أو يبني مدينة ونحو ذلك فيسمي ذلك باسم لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة ‏.‏ وقد قال الله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏عَلَّمَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏خَلَقَ الْإِنسَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 4‏]‏ ‏.‏ و ‏{‏قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره ‏.‏

وهو سبحانه إذا كان قد علم آدم الأسماء كلها وعرض المسميات على الملائكة كما أخبر بذلك في كتابه فنحن نعلم أنه لم يعلم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولًاده فلا يتكلمون إلا بها فإن دعوى هذا كذب ظاهر فإن آدم عليه السلام إنما ينقل عنه بنوه وقد أغرق الله عام الطوفان جميع ذريته إلا من في السفينة وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولًاد نوح ولم يكونوا يتكلمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم ‏.‏

فإن ‏[‏اللغة الواحدة‏]‏ كالفارسية والعربية والرومية والتركية فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله ‏,‏ والعرب أنفسهم لكل قوم لغات لا يفهمها غيرهم فكيف يتصور أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل وإنما النسل لنوح وجميع الناس من أولًاده وهم ثلاثة‏:‏ سام وحام ويافث كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏}‏ ‏.‏ فلم يجعل باقيا إلا ذريته وكما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أن أولاده ثلاثة‏]‏ ‏.‏ رواه أحمد وغيره ‏.‏

ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله ويمتنع نقل ذلك عنهم، فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه ‏,‏ وإذا كان الناقل ثلاثة، فهم قد علموا أولًادهم ‏,‏ وأولادهم علموا أولادهم ‏,‏ ولو كان كذلك لاتصلت ‏.‏

ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى والأب واحد ‏,‏ لا يقال‏:‏ إنه علم أحد ابنيه لغة وابنه الآخر لغة، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان واللغات في أولاده أضعاف ذلك ‏.‏

والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها، أو يخاطبهم بها غيرهم فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلمونها أولادهم ‏.‏

وأيضًا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم ‏.‏ والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها الله آدم قولان معروفان عن السلف ‏.‏

‏[‏أحدهما‏]‏‏:‏ أنه إنما علمه أسماء من يعقل واحتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل‏,‏ وما لا يعقل يقال فيها‏:‏ عرضها ‏.‏ ولهذا قال أبو العالية‏:‏ علمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية ‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ علمه أسماء ذريته وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته، فرآهم فرأى فيهم من يبص ‏.‏ فقال‏:‏ يا رب من هذا ‏؟‏ قال‏:‏ ابنك داود‏)‏ ‏.‏ فيكون قد أراه صور ذريته أو بعضهم وأسماءهم وهذه أسماء أعلام لا أجناس‏.‏

‏[‏والثاني‏]‏‏:‏ أن الله علمه أسماء كل شيء وهذا هو قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه، قال ابن عباس‏:‏ علمه حتى الفسوة والفسية والقصعة والقصيعة ‏,‏ أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبرها ومصغرها ‏.‏

والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏إن الناس يقولون‏:‏ يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء‏)‏‏.‏

وأيضًا قوله‏:‏ ‏{‏الأَسْمَاء كُلَّهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏ لفظ عام مؤكد، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 31‏]‏، لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل فغلب من يعقل ‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 45‏]‏ ‏.‏ قال عكرمة‏:‏ علمه أسماء الأجناس دون أنواعها كقولك‏:‏ إنسان وجن وملك وطائر ‏.‏ وقال مقاتل وابن السائب وابن قتيبة‏:‏ علمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير ‏.‏

ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقاة عن آدم، أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان، بل إنما ستعملون في ذلك الإضافة ‏.‏

فلو كان آدم عليه السلام علمها الجميع لعلمها متناسبة ‏,‏ وأيضًا فكل أمة ليس لها كتاب ليس في لغتها أيام الأسبوع ‏,‏ وإنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة؛ لأن ذلك عرف بالحس والعقل، فوضعت له الأمم الأسماء، لأن التعبير يتبع التصور‏.‏

وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع ‏,‏ لم يعرف أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه ويحفظون به الأسبوع الأول الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم، ففي لغة العرب والعبرانيين ‏,‏ ومن تلقى عنهم‏,‏ أيام الأسبوع، بخلاف الترك ونحوهم، فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبروا عنه ‏.‏ فعلم أن الله ألهم النوع الإنساني أن يعبر عما يريده ويتصوره بلفظه وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم وهم علموا كما علم وإن اختلفت اللغات ‏.‏

وقد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية وإلى محمد بالعربية، والجميع كلام الله ‏,‏ وقد بين الله بذلك ما أراد من خلقه وأمره ‏,‏ وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى ‏,‏ مع أن العبرانية من أقرب اللغات إلى العربية حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض ‏.‏

فبالجملة نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك، بل يكفينا أن يقال‏:‏ هذا غير معلوم وجوده بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة، وإذا سمى هذا توقيفًا، فليسم توقيفا وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم له به ‏.‏ وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال ‏.‏

ثم هؤلاء يقولون تتميز الحقيقة من المجاز بالاكتفاء باللفظ فإذا دل اللفظ بمجرده فهو حقيقة وإذا لم يدل إلا مع القرينة فهو مجاز وهذا أمر متعلق باستعمال اللفظ في المعنى لا بوضع متقدم‏.‏

ثم يقال ثانيًا‏:‏ هذا التقسيم لا حقيقة له وليس لمن فرق بينهما حد صحيح يميز به بين هذا وهذا فعلم أن هذا التقسيم باطل وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول بل يتكلم بلا علم فهم مبتدعة في الشرع مخالفون للعقل وذلك أنهم قالوا‏:‏ الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له و المجاز هو المستعمل في غير ما وضع له احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال وهذا يتعذر ثم يقسمون الحقيقة إلى لغوية وعرفية وأكثرهم يقسمها إلى ثلاث لغوية وشرعية وعرفية‏.‏

فالحقيقة العرفية هي ما صار اللفظ دالاً فيها على المعنى بالعرف لا باللغة، وذلك المعنى يكون تارة أعم من اللغوي وتارة أخص وتارة يكون مباينًا له لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها‏.‏

فالأول مثل لفظ الرقبة و الرأس ونحوهما كان يستعمل في العضو المخصوص ثم صار يستعمل في جميع البدن‏.‏

والثاني مثل لفظ الدابة ونحوها كان يستعمل في كل ما دب ثم صار يستعمل في عرف بعض الناس في ذوات الأربع وفي عرف بعض الناس في الفرس وفي عرف بعضهم في الحمار‏.‏

والثالث مثل لفظ الغائط و الظعينة والراوية و المزادة فان الغائط في اللغة هو المكان المنخفض من الأرض فلما كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم سموا ما يخرج من الإنسان باسم محله والظعينة اسم الدابة ثم سموا المرأة التي تركبها باسمها ونظائر ذلك و المقصود أن هذه الحقيقة العرفية لم تصر حقيقة لجماعة تواطئوا على نقلها ولكن تكلم بها بعض الناس وأراد بها ذلك المعنى العرفي ثم شاع الاستعمال فصارت حقيقة عرفية بهذا الاستعمال؛ ولهذا زاد من زاد منهم في حد الحقيقة في اللغة التي بها التخاطب ثم هم يعلمون ويقولون‏:‏ إنه قد يغلب الاستعمال على بعض الألفاظ، فيصير المعنى العرفي أشهر فيه ولا يدل عند الإطلاق إلا عليه، فتصير الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية واللفظ مستعمل في هذا الاستعمال الحادث للعرفي وهو حقيقة من غير أن يكون لما استعمل فيه ذلك تقدم وضع فعلم أن تفسير الحقيقة بهذا لا يصح وإن قالوا نعني بما وضع له ما استعملت فيه أولًا، فيقال‏:‏ من أين يعلم أن هذه الألفاظ التي كانت العرب تتخاطب بها عند نزول القرآن وقبله لم تستعمل قبل ذلك في معنى شيء آخر وإذا لم يعلموا هذا النفي فلا يعلم أنها حقيقة وهذا خلاف ما اتفقوا عليه وأيضًا فيلزم من هذا أن لا يقطع بشيء من الألفاظ أنه حقيقة وهذا لا يقوله عاقل‏.‏

ثم هؤلاء الذين يقولون هذا نجد أحدهم يأتي إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إلا مقيدة فينطق بها مجردة عن جميع القيود ثم يدعي أن ذلك هو حقيقتها من غير أن يعلم أنها نطق بها مجردة ولا وضعت مجردة مثل أن يقول‏:‏ حقيقة العين هو العضو المبصر ثم سميت به عين الشمس والعين النابعة وعين الذهب للمشابهة لكن أكثرهم يقولون إن هذا من باب المشترك لا من باب الحقيقة والمجاز فيمثل بغيره مثل لفظ الرأس يقولون‏:‏ هو حقيقة في رأس الإنسان ثم قالوا‏:‏ رأس الدرب لاوله ورأس العين لمنبعها ورأس القوم لسيدهم ورأس الأمر لأوله ورأس الشهر ورأس الحول وأمثال ذلك على طريق المجاز وهم لا يجدون قط أن لفظ الرأس استعمل مجردا بل يجدون أنه استعمل بالقيود في رأس الإنسان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ونحوه‏.‏

وهذا القيد يمنع أن تدخل فيه تلك المعاني فإذا قيل رأس العين ورأس الدرب ورأس الناس ورأس الأمر فهذا المقيد غير ذاك المقيد الدال ومجموع اللفظ الدال هنا غير مجموع اللفظ الدال هناك لكن اشتركا في بعض اللفظ كاشتراك كل الأسماء المعرفة في لام التعريف ولو قدر أن الناطق باللغة نطق بلفظ رأس الإنسان‏.‏

أولًا لأن الإنسان يتصور رأسه قبل غيره والتعبير أولًا هو عما يتصور أولًا فالنطق بهذا المضاف أولًا لا يمنع أن ينطق به مضافًا إلى غيره‏.‏

ثانيًا ولا يكون هذا من المجاز كما في سائر المضافات فإذا قيل‏:‏ ابن آدم أولًا لم يكن قولنا ابن الفرس وابن الحمار مجازًا وكذلك إذا قيل بنت الإنسان لم يكن قولنا بنت الفرس مجازًا وكذلك إذا قيل‏:‏ رأس الإنسان أولًا لم يكن قولنا‏:‏ رأس الفرس مجازًا وكذلك في سائر المضافات إذا قيل‏:‏ يده أو رجله فإذا قيل هو حقيقة فيما أضيف إلى الحيوان قيل ليس جعل هذا هو الحقيقة بأولى من أن يجعل ما أضيف إلى الإنسان رأس ثم قد يضاف إلى ما لا يتصوره أكثر الناس من الحيوانات الصغار التي لم تخطر ببال عامة الناطقين باللغة فإذا قيل‏:‏ إنه حقيقة في هذا فلمإذا لا يكون حقيقة في رأس الجبل والطريق والعين وكذلك سائر ما يضاف إلى الإنسان من أعضائه وأولًاده ومساكنه يضاف مثله إلى غيره ويضاف ذلك إلى الجمادات فيقال رأس الجبل ورأس العين وخطم الجبل أي أنفه وفم الوادي وبطن الوادي وظهر الجبل وبطن الأرض وظهرها ويستعمل مع الألف وهو لفظ الظاهر والباطن في أمور كثيرة والمعنى في الجميع أن الظاهر لما لما ظهر فتبين والباطن لما بطن فخفي وسمى ظهر الإنسان ظهرًا لظهوره وبطن الإنسان بطنا لبطونه‏.‏

فإذا قيل‏:‏ إن هذا حقيقة وذاك مجاز لم يكن هذا أولى من العكس و أيضًا من الأسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردًا كلفظ الإنسان ونحوه ثم قد يستعمل مقيدًا بالإضافة كقولهم إنسان العين وإبرة الذراع ونحو ذلك وبتقدير أن يكون في اللغة حقيقة ومجاز فقد ادعى بعضهم أن هذا من المجاز؛ وهو غلط فان المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولًا وهنا لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر فصار وضعا آخر بالإضافة‏.‏

فلو استعمل مضافًا في معنى ثم استعمل بتلك الإضافة في غيره كان مجازًا بل إذا كان بعلبك وحضرموت، ونحوهما مما يركب تركيب مزج بعد أن كان الأصل فيه الإضافة، لا يقال إنه مجاز فما لم ينطق به إلا مضافًا أولى أن لا يكون مجازًا وأما من فرق بين الحقيقة والمجاز بأن الحقيقة ما يفيد المعنى مجردًا عن القرائن والمجاز ما لا يفيد ذلك المعنى إلا مع قرينه أو قال الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق و المجاز ما لا يفيد إلا مع التقييد أو قال الحقيقة هي المعنى الذي يسبق إلى الذهن، عند الإطلاق و المجاز ما لا يسبق إلى الذهن، أو قال المجاز ما صح نفيه و الحقيقة ما لا يصح نفيها، فإنه يقال‏:‏ ما تعني بالتجريد عن القرائن والاقتران بالقرائن إن عنى بذلك القرائن اللفظية مثل كون الاسم يستعمل مقرونًا بالإضافة أو لام التعريف ويقيد بكونه فاعلًا ومفعولًا ومبتدأً وخبرًا، فلا يوجد قسط في الكلام المؤلف اسم إلا مقيدًا، وكذلك الفعل إن عنى بتقييده أنه لابد له من فاعل وقد يقيد بالمفعول به وظرفي الزمان والمكان والمفعول له ومعه والحال فالفعل لا يستعمل قط إلا مقيدًا، وأما الحرف فأبلغ فإن الحرف أُتي به لمعنى في غيره ففي الجملة لا يوجد قط في كلام تام اسم ولا فعل ولا حرف إلا مقيدًا بقيود تزيل عنه الإطلاق فإن كانت القرينة مما يمنع الإطلاق عن كل قيد فليس في الكلام الذي يتكلم به جميع الناس لفظ مطلق عن كل قيد سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية‏.‏ ولهذا كان لفظ ‏[‏الكلام‏]‏ و ‏[‏الكلمة‏]‏ في لغة العرب بل وفي لغة غيرهم لا تستعمل الا في المقيد وهو الجملة التامة اسمية كانت أو فعلية، أو ندائية ان قيل انها قسم ثالث‏.‏

فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فهذا لا يسمى في كلام العرب قط كلمة وانما تسمية هذا كلمة اصطلاح نحوى كما سموا بعض الألفاظ فعلا وقسموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر والعرب لم تسم قط اللفظ فعلا بل النحاة اصطلحوا على هذا فسموا اللفظ باسم مدلوله فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سموه فعلا ماضيا وكذلك سائرها‏.‏

وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة بل وفي كلام العرب نظمه ونثره لفظ كلمة فانما يراد به المفيد التى تسميها النحاة جملة تامة كقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم ان يقولون الا كذبا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شىء ما خلا الله باطل ** ‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ان الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته‏)‏، وإذا كان كل اسم أو فعل أو حرف يوجد في الكلام فإنه مقيد لا مطلق لم يجز أن يقال للفظ الحقيقة ما دل مع الإطلاق والتجرد عن كل قرينة تقارنه‏.‏

فان قيل‏:‏ أريد بعض القرائن دون بعض قيل له أذكر الفصل بين القرينة التى يكون معها حقيقة والقرينة التى يكون معها مجاز ولن تجد إلى ذلك سبيلا تقدر به على تقسيم صحيح معقول‏.‏ ومما يدل على ذلك أن الناس اختلفوا في ‏[‏العام‏]‏ إذا خص هل يكون استعماله فيما بقى حقيقة أو مجازا وكذلك لفظ ‏[‏الأمر‏]‏ إذا أريد به الندب، هل يكون حقيقة أو مجازا وفي

ذلك قولان لأكثر الطوائف‏:‏ لأصحاب أحمد قولان، ولأصحاب الشافعى قولان، ولأصحاب مالك قولان‏.‏

ومن الناس من ظن أن هذا الخلاف يطرد في التخصيص المتصل كالصفة، والشرط والغاية والبدل، وجعل يحكى في ذلك أقوال من يفصل كما يوجد في كلام طائفة من المصنفين في أصول الفقه وهذا مما يعرف أن أحدا قاله فجعل اللفظ العام المقيد في الصفات والغايات والغايات والشروط مجازا؛ بل لما أطلق بعض المصنفين أن اللفظ العام إذا خص يصير مجازا ظن هذا الناقل أنه عنى التخصيص المتصل وأولئك لم يكن في اصطلاحهم عام مخصوص الا إذا خص بمنفصل وأما المتصل فلا يسمون اللفظ عاما مخصوصا البتة فانه لم يدل الا متصلا والاتصال منعه العموم وهذا اصطلاح كثير من الأصوليين وهو الصواب لا يقال لما قيد بالشرط والصفة ونحوهما أنه داخل فيما خص من العموم ولا في العام المخصوص

لكن يقيد فيقال‏:‏ تخصيص متصل وهذا المقيد لا يدخل في التخصيص

المطلق‏.‏

وبالجملة فيقال‏:‏ إذا كان هذا مجازا فيكون تقييد الفعل المطلق بالمفعول به وبظرف الزمان والمكان مجازا وكذلك بالحال وكذلك كل ما قيد بقيد فيلزم أن يكون الكلام كله مجازا فأين الحقيقة‏؟‏

فان قيل‏:‏ يفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة فما كان مع القرينة المتصلة فهو حقيقة ، وما كان مع المنفصلة كان مجازا؛ قيل‏:‏ تعنى بالمتصل ما كان في اللفظ أو ما كان موجودا حين الخطاب فان عنيت الأول لزم أن يكون ما علم من حال المتكلم أو المستمع أولا قرينة منفصلة فما استعمل بلام التعريف لما يعرفانه كما يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المسلمين رسول الله أو قال الصديق، وهو عندهم أبو بكر وإذا قال الرجل لصاحبه‏:‏ اذهب إلى الأمير أو القاضى أو الوالى يريد ما يعرفانه أنه يكون مجازا وكذلك الضمير يعود إلى معلوم غير مذكور كقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏، وأمثال ذلك، أن يكون هذا مجازا وهذا لا يقوله أحد‏.‏

و ‏[‏أيضا‏]‏ فإذا قال لشجاع‏:‏ هذا الأسد فعل اليوم كذا، ولبليد‏:‏ هذا الحمار قال اليوم كذا، أو لعالم أو جواد‏:‏ هذا البحر جرى منه اليوم كذا، أن يكون حقيقة لأن قوله هذا قرينة لفظية، فلا يبقى قط مجازا‏.‏

وإن قال‏:‏ المتصل أعم من ذلك وهو ما كان موجودا حين الخطاب قيل له فهذا أشد عليك من الأول فان كل متكلم بالمجاز لابد أن يقترن به حال الخطاب ما يبين مراده والا لم يجز التكلم به‏.‏

فان قيل‏:‏ أنا أجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة

قيل‏:‏ أكثر الناس لا يجوزون أن يتكلم بلفظ يدل على معنى وهو لا يريد ذلك المعنى الا إذا بين وانما يجوزون تأخير بيان ما لم يدل اللفظ عليه كالمجملات‏.‏ ثم نقول‏:‏ إذا جوزت تأخير البيان فالبيان قد يحصل بجملة تامة وبأفعال من الرسول وبغير ذلك ولا يكون البيان المتأخر الا مستقلا بنفسه لا يكون مما يجب اقترانه بغيره فان جعلت هذا مجازا لزم أن يكون

ما يحتاج في العمل إلى بيان مجازا، كقوله‏:‏ ‏{‏ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ثم يقال‏:‏ هب إن هذا جائز عقلا لكن ليس واقعا في الشريعة أصلا وجميع ما يذكر من ذلك باطل كما قد بسط في موضعه فان الذين قالوا ‏:‏ الظاهر الذي لم يرد به ما يدل عليه ظاهره قد يؤخر بيانه احتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وادعوا أنها كانت معينة وأخر بيان التعيين‏.‏ وهذا خلاف ما استفاض عن السلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان من أنهم أمروا ببقرة مطلقة فلو أخذوا بقرة من البقر فذبحوها، أجزأ

عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم‏.‏ والآية نكرة في سياق الاثبات، فهي مطلقة والقرآن يدل سياقه على أن الله ذمهم على السؤال بما هى ولو كان المأمور به معينا لما كانوا ملومين ثم إن مثل هذا لم يقع قط في أمر الله ورسوله أن يأمر عباده بشىء معين ويبهمه عليهم مرة بعد مرة ولا يذكره بصفات تختص به ابتداء‏.‏

واحتجوا بأن الله أخر بيان لفظ الصلاة والزكاة والحج وان هذه الالفاظ لها معان في اللغة بخلاف الشرع وهذا غلط فان الله انما أمرهم بالصلاة بعد أن عرفوا المأمور به وكذلك الصيام ، وكذلك الحج، ولم يؤخر الله قط بيان شىء من هذه المأمورات ولبسط هذه المسألة موضع آخر‏.‏

وأما قول من يقول ان الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الاطلاق فمن أفسد الأقوال فانه يقال إذا كان اللفظ لم ينطق به الا مقيدا فانه يسبق إلى الذهن في كل موضع منه ما دل عليه ذلك الموضع واما إذا اطلق فهو لا يستعمل في الكلام مطلقا قط فلم يبق له حال اطلاق محض حتى يقال ان الذهن يسبق اليه أم لا ‏.‏

 و ‏[‏أيضا‏]‏ فأى ذهن فإن العربى الذي يفهم كلام العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما لا يسبق إلى ذهن النبطى الذي صار يستعمل الألفاظ في غير معانيها ومن هنا غلط كثير من الناس فانهم قد تعودوا ما اعتادوه اما من خطاب عامتهم واما من خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة وهذا مما دخل به الغلط على طوائف بل الواجب أن تعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل في القرآن والسنة وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله لا بما حدث بعد ذلك‏.‏ وأيضا فقد بينا في غير هذا الموضع أن الله ورسوله لم يدع شيئا من القرآن والحديث الا بين معناه للمخاطبين ولم يحوجهم إلى شىء آخر كما قد بسطنا القول فيه في غير هذا الموضع فقد تبين أن ما يدعيه هؤلاء من اللفظ المطلق من جميع القيود لا يوجد الا مقدرا في الأذهان لا موجودا في الكلام المستعمل كما أن ما يدعيه المنطقيون من المعنى المطلق من جميع القيود لا يوجد الا مقدرا في الذهن لا يوجد في الخارج شىء موجود خارج عن كل قيد ولهذا كان ما يدعونه من تقسيم العلم إلى تصور وتصديق وان التصور هو تصور المعنى الساذج الخإلى عن كل قيد لا يوجد وكذلك ما يدعونه من البسائط التى تتركب منها الأنواع وأنها أمور مطلقة عن كل قيد لا توجد وما يدعونه من أن واجب الوجود هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتى لا يوجد ‏.‏

فهذه الصفات المطلقات عن جميع القيود ينبغى معرفتها لمن ينظر في هذه العلوم فانه بسبب ظن وجودها ضل طوائف في العقليات والسمعيات بل إذا قال العلماء مطلق ومقيد انما يعنون به مطلقا عن ذلك القيد ومقيد بذلك القيد كما يقولون الرقبة مطلقة في آية كفارة اليمين ومقيدة في آية القتل أى مطلقة عن قيد الإيمان، والا فقد قيل‏:‏ ‏{‏ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 3‏]‏، فقيدت بأنها رقبة واحدة وأنها موجودة وأنها تقبل التحرير والذين يقولون بالمطلق المحض يقولون هو الذي لا يتصف بوحدة ولا كثرة ولا وجود ولا عدم ولا غير ذلك بل هو الحقيقة من حيث هى هى كما يذكره الرازى تلقيا له عن ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة وقد بسطنا الكلام في هذا الاطلاق والتقيد والكليات والجزئيات في مواضع غير هذا وبينا من غلط هؤلاء في ذلك

ما ليس هذا موضعه‏.‏

وإنما المقصود هنا الاطلاق اللفظى وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد وهذا لا وجود له وحينئذ فلا يتكلم أحد الا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض فتكون تلك قيود ممتنعة الاطلاق فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن به التمييز بين نوعين فعلم أن هذا التقسيم باطل وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله فانه مقيد بما يبين معناه فليس في شىء من ذلك مجاز بل كله حقيقة ولهذا لما ادعى كثير من المتأخرين أن في القرآن مجازا وذكروا ما يشهد لهم رد عليهم المنازعون جميع ما ذكروه فمن اشهر ما ذكروه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 77‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ والجدار ليس بحيوان، والارادة انما تكون للحيوان فاستعمالها في ميل الجدار مجاز فقيل لهم لفظ الارادة قد استعمل في الميل الذي يكون معه شعور وهو ميل الحى وفي الميل الذي لا شعور فيه وهو ميل الجماد وهو من مشهور اللغة يقال هذا السقف يريد أن يقع وهذه الأرض تريد أن تحرث وهذا الزرع يريد أن يسقى وهذا الثمر يريد أن يقطف وهذا الثوب يريد أن يغسل وأمثال ذلك‏.‏

واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدا فاما أن يجعل حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركا اشتراكا لفظيا أو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهى الأسماء المتواطئة وهى الأسماء العامة كلها وعلى الأول يلزم المجاز وعلى الثاني يلزم الاشتراك وكلاهما خلاف الأصل فوجب أن يجعل من المتواطئة وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها والا فلو قال قائل هو في ميل الجماد حقيقة وفي ميل الحيوان مجاز لم يكن بين الدعويين فرق الا كثرة الاستعمال في ميل الحيوان لكن يستعمل مقيدا بما يبين أنه أريد به ميل الحيوان وهنا استعمل مقيدا بما يبين أنه أريد به ميل الجماد والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلى عام لا يوجد كليا عاما الا في الذهن وهو مورد التقسيم بين الأنواع لكن ذلك المعنى العام الكلي كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج وإلى ما يوجد في القلوب في العادة وما لا يكون في الخارج إلا مضافا إلى غيره لا يوجد في الذهن مجردا بخلاف لفظ الإنسان والفرس فانه لما كان يوجد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان تصور مسمى الإنسان ومسمى الفرس بخلاف تصور مسمى الإرادة ومسمى العلم ومسمى القدرة ومسمى الوجود المطلق العام فان هذا لا يوجد له في اللغة لفظ مطلق يدل عليه بل لا يوجد لفظ الارادة الا مقيدا بالمريد ولا لفظ العلم الا مقيدا بالعالم ولا لفظ القدرة الا مقيدا بالقادر بل وهكذا سائر الأعراض لما لم توجد الا في محالها مقيدة بها لم يكن لها في اللغة لفظ الا كذلك‏.‏

فلا يوجد في اللغة لفظ السواد والبياض والطول والقصر إلا مقيدا بالأسود والأبيض والطويل والقصير ونحو ذلك؛ لا مجردا عن كل قيد وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة، لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يريدون به من القدر المشترك، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏، فإن من الناس من يقول‏:‏ الذوق حقيقة في

الذوق بالفم واللباس بما يلبس على البدن، وانما استعير هذا وهذا وليس

كذلك بل قال الخليل الذوق في لغة العرب هو وجود طعم الشىء والاستعمال يدل على ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏، ‏{‏فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 39‏]‏، ‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏، ‏{‏لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 24، 25‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا‏)‏ وفي بعض الأدعية ‏(‏أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك‏)‏‏.‏

فلفظ ‏[‏الذوق‏]‏ يستعمل في كل ما يحس به ويجد ألمه أو لذته فدعوى المدعى

اختصاص لفظ الذوق بما يكون بالفم تحكم منه، لكن ذاك مقيد فيقال‏:‏ ذقت الطعام وذقت هذا الشراب؛ فيكون معه من القيود ما يدل على أنه ذوق بالفم وإذا كان الذوق مستعملا فيما يحسه الانسان بباطنه أو بظاهره حتى الماء الحميم يقال‏:‏ ذاقه فالشراب إذا كان باردا أو حارا يقال‏:‏ ذقت حره وبرده‏.‏ وأما لفظ ‏[‏اللباس‏]‏ فهو مستعمل في كل ما يغشى الانسان ويلتبس به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ ومنه يقال لبس الحق بالباطل إذا خلطه به حتى غشيه فلم يتميز فالجوع الذي يشمل ألمه جميع الجائع نفسه وبدنه وكذلك الخوف الذي يلبس البدن فلو قيل‏:‏ فأذاقها الله الجوع والخوف‏.‏ لم يدل ذلك على أنه شامل لجميع أجزاء الجائع بخلاف ما إذا قيل‏:‏ لباس الجوع والخوف ولو قال فألبسهم لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم الا بالعقل من حيث أنه يعرف أن الجائع الخائف يألم بخلاف لفظ ذوق الجوع والخوف فان هذا اللفظ يدل على الاحساس بالمؤلم وإذا أضيف إلى الملذ‏:‏ دل على الاحساس به، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا‏)‏‏.‏

فان قيل‏:‏ فلم لم يصف نعيم الجنة بالذوق قيل لأن الذوق يدل على جنس الاحساس ويقال‏:‏ ذاق الطعام لمن وجد طعمه وان لم يأكله وأهل الجنة نعيمهم كامل تام لا يقتصر فيه على الذوق، بل استعمل لفظ الذوق في النفي كما قال عن أهل النار‏:‏ ‏{‏لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 24‏]‏؛ أى لا يحصل لهم من ذلك ولا ذوق‏.‏ وقال عن أهل الجنة‏:‏ ‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ المكر و الاستهزاء و السخرية المضاف إلى الله وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز وليس كذلك بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجنى عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلا كما قال تعالى كذلك كدنا ليوسف فكاد له كما كادت اخوته لما قال له أبوه لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًاوَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 50، 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏، ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلا يستحق هذا الاسم كما روى عن ابن عباس أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون اليه فيغلق ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون اليه فيغلق فيضحك منهم المؤمنون؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 34‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وعن الحسن البصرى إذا كان يوم القيامة خمدت النار لهم كما تخمد الاهالة من القدر فيمشون فيخسف بهم وعن مقاتل إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة فيقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا وقال بعضهم استهزاؤه استدراجه لهم وقيل ايقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم وقيل انه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة وقيل هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه

وهذا كله حق وهو استهزاء بهم حقيقة‏.‏

 ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، قالوا المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فقيل لهم لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التى فيها الحال والمحال كلاهما داخل في الاسم ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان وكذلك في النهر يقال حفرت النهر وهو المحل وجرى النهر وهو الماء ووضعت الميزاب وهو المحل وجرى الميزاب وهو الماء وكذلك القرية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4، 5‏]‏، وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 97‏]‏‏.‏ فجعل القرى هم السكان‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وهم السكان‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ فهذا المكان لا السكان لكن لابد أن يلحظ أنه كان مسكونا فلا يسمى قرية إلا إذا كان قد عمر للسكنى مأخوذ من القرى وهو الجمع ومنه قولهم‏:‏ قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه‏.‏

ونظير ذلك لفظ ‏[‏الإنسان‏]‏ يتناول الجسد والروح ثم الاحكام تتناول هذا تارة وهذا تارة لتلازمهما؛ فكذلك القرية إذا عذب أهلها خربت وإذا خربت كان عذابا لأهلها فما يصيب أحدهما من الشر ينال الآخر كما ينال البدن والروح ما يصيب أحدهما‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏‏.‏ فاللفظ هنا يراد به السكان من غير اضمار ولا حذف فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز فلا مجاز في القرآن بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف والخلف فيه على قولين وليس النزاع فيه لفظيا بل يقال نفس هذا التقسيم باطل لا يتميز هذا عن هذا ولهذا كان كل ما يذكرونه من الفروق تبين أنها فروق باطلة وكلما ذكر بعضهم فرقا أبطله الثاني كما يدعى المنطقيون أن الصفات القائمة بالموصوفات تنقسم اللازمة لها إلى داخل في ماهيتها الثابتة في الخارج وإلى خارج عنها لازم للماهية ولازم خارج للوجود وذكروا ثلاثة فروق كلها باطلة لأن هذا التقسيم باطل لا حقيقة له بل ما يجعلونه داخلا يمكن جعله خارجا وبالعكس كما قد بسط في موضعه‏.‏

وقولهم‏:‏ اللفظ إن دل بلا قرينة فهو حقيقة وان لم يدل الا معها فهو مجاز قد تبين بطلانه وأنه ليس في الالفاظ الدالة ما يدل مجردا عن جميع القرائن ولا فيها ما يحتاج إلى جميع القرائن وأشهر أمثلة المجاز لفظ الأسد و الحمار و البحر ونحو ذلك مما يقولون أنه استعير للشجاع والبليد والجواد وهذه لا تستعمل الا مؤلفة مركبة مقيدة بقيود لفظية كما تستعمل الحقيقة كقول أبي بكر الصديق عن أبي قتادة لما طلب غيره سلب القتيل لاها الله إذا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله وصف له بالقوة للجهاد في سبيله وقد عينه تعيينا أزال اللبس وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين‏)‏ وأمثال ذلك‏.‏

وإن قال القائل‏:‏ القرائن اللفظية موضوعة ودلالتها على المعنى حقيقة لكن القرائن الحالية مجاز قيل اللفظ لا يستعمل قط الا مقيدا بقيود لفظية موضوعة والحال حال المتكلم والمستمع لابد من اعتباره في جميع الكلام فانه إذا عرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه واللفظ انما يدل إذا عرف لغة المتكلم التى بها يتكلم وهى عادته وعرفه التى يعتادها في خطابه ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية ارادية اختيارية فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغته ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها‏:‏ عرف عادته في خطابه، وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره‏.‏

ولهذا ينبغى أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث ان يذكر نظائر ذلك اللفظ مإذا عنى بها الله ورسوله فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التى يخاطب بها عباده وهى العادة المعروفة من كلامه ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره وكانت النظائر كثيرة عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة لا يختص بها هو صلى الله عليه وسلم بل هى لغة قومه ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه ولهذا كان استعمال القياس في اللغة وان جاز في الاستعمال فانه لا يجوز في الاستدلال فانه قد يجوز بلانسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه مع بيان ذلك على ما فيه من النزاع لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معان فيحملها على غير تلك المعانى ويقول انهم أرادوا تلك بالقياس على تلك بل هذا تبديل وتحريف فإذا قال‏:‏ ‏(‏الجار أحق بسقبه‏)‏ فالجار هو الجار ليس هو الشريك فان هذا لا يعرف في لغتهم لكن ليس في اللفظ ما يقتضى انه يستحق الشفعة لكن يدل على ان البيع له اولى‏.‏

وأما ‏[‏الخمر‏]‏ فقد ثبت بالنصوص الكثيرة والنقول الصحيحة انها كانت اسما لكل مسكر لم يسم النبيذ خمرا بالقياس وكذلك النباش كانوا يسمونه سارقا؛ كما قالت عائشة سارق‏:‏ موتانا كسارق احيانا واللائط عندهم كان أغلظ من الزانى بالمرأة‏.‏

ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامة فمعرفة العربية التى خوطبنا بها مما يعين على أن نفقة مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الالفاظ على المعانى؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك ويجعلون هذة الدلالة حقيقة، وهذه مجازا كما أخطأ المرجئة في اسم الإيمان جعلوا لفظ ‏[‏الإيمان‏]‏ حقيقة في مجرد التصديق وتناولة للأعمال مجازا‏.‏

فيقال‏:‏ إن لم يصح التقسيم إلى حقيقة ومجازا فلا حاجة إلى هذا وإن صح فهذا لا ينفعكم بل هو عليكم لا لكم لأن الحقيقة هى اللفظ الذي يدل باطلاقه بلا قرينة والمجاز انما يدل بقرينة وقد تبين ان لفظ الايمان حيث اطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد؛ وهذا يدل على أن الحقيقة قوله‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون شعبة‏)‏‏.‏

وأما حديث جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام فهو كذلك وهذا هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا‏.‏ كما أنه لما ذكر الإحسان أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام لم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام‏.‏

ولو قدر أنه أريد بلفظ ‏[‏الإيمان‏]‏ مجرد التصديق فلم يقع ذلك إلا مع قرينة فيلزم أن يكون مجازا وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث بخلاف كون لفظ الايمان في اللغة مرادفا للتصديق ودعوى أن الشارع لم يغيره ولم ينقله بل أراد به ما كان يريده أهل اللغة بلا تخصيص ولا تقييد فان هاتين المقدمتين لا يمكن الجزم بواحدة منهما فلا يعارض اليقين كيف وقد عرف فساد كل واحدة من المقدمتين وأنها من أفسد الكلام‏.‏

و ‏[‏أيضا‏]‏ فليس لفظ الإيمان في دلالته على الأعمال المأمور بها بدون لفظ الصلاة والصيام والزكاة والحج في دلالته على الصلاة الشرعية والصيام الشرعى والحج الشرعى سواء قيل إن الشارع نقله أو أراد الحكم دون الاسم أو أراد الاسم وتصرف فيه تصرف أهل العرف أو خاطب بالاسم مقيدا لا مطلقا‏.‏

 فإن قيل‏:‏ الصلاة والحج ونحوهما لو ترك بعضها بطلت بخلاف الإيمان فإنه لا يبطل عند الصحابة وأهل السنة والجماعة بمجرد الذنب قيل أن إريد بالبطلان أنه لا تبرأ الذمة منها كلها فكذلك الايمان الواجب إذا ترك منه شيئا لم تبرأ الذمه منه كله وان أريد به وجوب الاعادة فهذا ليس على

الإطلاق فإن في الحج واجبات إذا تركها لم يعد، بل تجبر بدم وكذلك في الصلاة عند أكثر العلماء إذا تركها سهوا أو مطلقا وجبت الإعادة فإنما تجب إذا أمكنت الإعادة وإلا فما تعذرت إعادته يبقى مطالبا به كالجمعة ونحوها‏.‏

وإن أريد بذلك أنه لا يثاب على ما فعله فليس كذلك بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسىء في صلاته أنه إذا لم يتمها يثاب على ما فعل ولا يكون بمنزلة من لم يصل وفي عدة أحاديث أن الفرائض تكمل يوم القيامة من النوافل فإذا كانت الفرائض مجبورة بثواب النوافل دل على أنه يعتدله بما فعل منها فكذلك الايمان إذا ترك منه شيئا كان عليه فعله ان كان محرما تاب منه وان كان واجبا فعله فإذا لم يفعله لم تبرأ ذمته منه وأثيب على ما فعله كسائر العبادات وقد دلت النصوص على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان‏.‏

وقد عدلت ‏[‏المرجئة‏]‏ في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم باحسان واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع ولهذا كان الإمام أحمد يقول‏:‏ أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل والقياس‏.‏ ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم وإنما

يعتمدون على العقل واللغة وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التى وضعتها رؤوسهم وهذه طريقة الملاحدة أيضا إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة؛ وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتقون اليها‏.‏ هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هى عندهم لا تفيد

العلم وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في انكار هذا وجعله طريقة أهل البدع‏.‏ وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل والقاضى أبو بكر الباقلاني نصر قول جهم في ‏[‏مسألة الإيمان‏]‏ متابعة لأبي الحسن الأشعرى وكذلك أكثر أصحابه فأما أبو العباس القلانسى وأبو على الثقفي، وأبو عبدالله بن مجاهد ـ شيخ القاضى أبي بكر وصاحب أبي الحسن ـ فإنهم نصروا مذهب السلف وابن كلاب ـ نفسه ـ والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما كانوا يقولون‏:‏ هو التصديق والقول جميعا موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان، ومن اتبعه مثل أبي حنيفة وغيره‏.‏